فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كما قال ابن عباس رضى الله عنهما- إنه المراد ههنا، ويؤيده ما بعده- وجوهًا من البيان، وطرقناه طرقًا تعيي أرباب اللسان، في معان كثيرة جدًا {بينهم} في كل قطر عند كل قوم {ليذكروا} بالآيات المسموعة ما ركزنا في فطرهم من الأدلة العقلية والمؤيدة بالآيات المرئية ولو على أدنى وجوه التذكر المنجية لهم- بما أشار إليه الإدغام.
ولما كان القرآن قائدًا ولابد لمن أنصف إلى الإيمان، دل على أن المتخلف عنه إنما هو معاند بقوله: {فأبى} أي لم يرد {أكثر الناس} أي بعنادهم {إلا كفورًا} مصدر كفر مبالغًا فيه.
ولما كان تعنتهم بأن ينزل عليه ملك فيكون معه نذيرًا، ربما أثار في النفس طلب إجابتهم إلى مقترحهم حرصًا على هدايتهم، فأومأ أولًا إلى أنه لا فائدة في ذلك بأن مؤازرة هارون لموسى عليهما السلام لم تغن عن القبط شيئًا، وثانيًا بأن المدار في وجوب التصديق للنذير الإتيان بما يعجز، وكان ذلك موجودًا في آيات القرآن، المصرفة في كل زمان ومكان بكل بيان، فكانت كل آية منه قائمة مقام نذير، قال مشيرًا إلى أنه إنما ترك ذلك لحكم يعلمها: {ولو شئنا لبعثنا} أي بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة {في كل قرية نذيرًا} أي من البشر أو الملائكة أو غيرهم من عبادنا، كما قسمنا المطر لأن الملك- كما قدمنا أول السورة- كله لنا، ليس لنا شريك يمنع من ذلك بما له من الحق، ولا ولد يمنع بما له من الدلة، ولكنا لم نفعل لما في آيات القرآن من الكفاية في ذلك، ولما في انفرادك بالدعوة من الشرف لك- وغير ذلك من الحكمة {فلا تطع الكافرين} فيما قصدوا من التفتير عن الدعاء به، بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة، أو من القلق من صادع الإنذار، ويخيلون أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك {وجاهدهم} أي بالدعاء {به} أي القرآن الذي تقدم التحديث عنه في {ولقد صرفناه} [الفرقان: 5] بإبلاغ آياته مبشرة كانت أو منذرة، والاحتجاج ببراهينه {جهادًا كبيرًا} جامعًا لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة، لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيتقوى أمرك، ويعظم خطبك، وتضعف شوكتهم، وتنكسر سورتهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاسًا والنوم سُبَاتًا وَجَعَلَ النهار نُشُورًا} اعلم أنه تعالى شبه الليل من حيث إنه يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن، ونبه على ما لنا فيه من النفع بقوله: {والنوم سُبَاتًا} والسبات هو الراحة وجعل النوم سباتًا لأنه سبب للراحة قال أبو مسلم: السبات الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت، وقال صاحب الكشاف السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة قال: وهذا كقوله: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة، لأن النشور في مقابلته يأباه، قال أبو مسلم: {وجعل النهار نشورًا} هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة، فقال: {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] والتي لم تمت في منامها كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمه على خلقه، لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة شبههما بالموت والحياة، وعن لقمان أنه قال لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
النوع الثالث: قوله: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَحْمَتِهِ} وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف، ثم فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرىء {الريح} و{الرياح}، قال الزجاج: وفي {نشرًا} خمسة أوجه بفتح النون وبضمها وبضم النون والشين وبالباء الموحدة مع ألف والمؤنث وبشرًا بالتنوين، قال أبو مسلم في قرأ {بشرًا} أراد جمع بشير مثل قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات} [الروم: 46] وأما بالنون فهو في معنى قوله: {والناشرات نَشْرًا} [المرسلات: 3] وهي الرياح، والرحمة الغيث والماء والمطر.
المسألة الثانية:
قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُورًا} نص في أنه تعالى ينزل الماء من السماء، لا من السحاب.
وقول من يقول السحاب سماء ضعيف لأن ذاك بحسب الاشتقاق، وأما بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر.
المسألة الثالثة:
اختلفوا في أن الطهور ما هو؟ قال كثير من العلماء الطهور ما يتطهر به كالفطور ما يفطر به، والسحور ما يتسحر به وهو مروي أيضًا عن ثعلب، وأنكر صاحب الكشاف ذلك، وقال ليس فعول من التفعيل في شيء والطهور على وجهين في العربية: صفة واسم غير صفة فالصفة قولك: ماء طهور كقولك طاهر، والاسم قولك طهور لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به النار.
حجة القول الأول قوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» ولو كان معنى الطهور الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم وحينئذ لا ينتظم الكلام، وكذا قوله عليه السلام: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا» ولو كان الطهور الطاهر لكان معناه طاهر إناء أحدكم وحينئذ لا ينتظم الكلام، ولأنه تعالى قال: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فبين أن المقصود من الماء إنما هو التطهر به فوجب أن يكون المراد من كونه طهورًا أنه هو المطهر به لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام، فوجب حمله على الوصف الأكمل ولا شك أن المطهر أكمل من الطاهر.
المسألة الرابعة:
اعلم أن الله تعالى ذكر من منافع الماء أمرين: أحدهما: ما يتعلق بالنبات والثاني: ما يتعلق بالحيوان، أما أمر النبات فقوله: {لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قال: {لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً} ميتًا ولم يقل ميتة؟ الجواب: لأن البلدة في معنى البلد في قوله: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ} [فاطر: 9].
السؤال الثاني: ما المراد من حياة البلد وموتها؟ الجواب: الناس يسمون ما لا عمارة فيه من الأرض مواتًا، وسقيها المقتضي لعمارتها إحياء لها.
السؤال الثالث: أن جماعة الطبائعيين (1) وكذا الكعبي من المعتزلة قالوا إن بطبع الأرض والماء وتأثير الشمس فيهما يحصل النبات وتمسكوا بقوله تعالى: {لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} فإن الباء في {به} تقتضي أن للماء تأثيرًا في ذلك الجواب: الظاهر وإن دل عليه لكن المتكلمون تركوه لقيام الدلالة على فساد الطبع وأما أمر الحيوان فقوله سبحانه: {وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ الجواب: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم.
السؤال الثاني: ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهما بالكثرة؟ الجواب: معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار {ومنافع} المياه فهم في غنية في شرب المياه عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله: {لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في كثير أن يرجع إلى قوله: {وَنُسْقِيَهِ} لأن الحي يحتاج إلى الماء حالًا بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب، والحيوان يحتاج إليه حالًا بعد حال ما دام حيًا.
السؤال الثالث: لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي الجواب: لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضًا بسقياهم وأيضًا فقوله تعالى: {وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50] يعني صرف المطر كل سنة إلى جانب آخر، وإذا كان كذلك فلا يسقي الكل منه بل يسقي كل سنة أناسي كثيرًا منه.
السؤال الرابع: ما الأناسي؟ الجواب: قال الفراء والزجاج: الإنسي والأناسي كالكرسي والكراسي، ولم يقل كثيرين لأنه قد جاء فعيل مفردًا ويراد به الكثرة كقوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذلك كَثِيرًا} [الفرقان: 38] {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُورًا} ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول هاهنا نظران:
أحدهما: أن الماء مطهر والثاني: أن غير الماء هل هو مطهر أم لا؟ النظر الأول: أن نقول الماء إما أن لا يتغير أو يتغير القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره، إلا الماء المستعمل فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر، وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به، وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل:
المسألة الأولى:
في بيان أنه ليس بمطهر، ودليلنا قوله عليه السلام: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» ولو بقي الماء كما كان طاهرًا مطهرًا لما كان للمنع منه معنى، ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرًا لحملوه ليوم الحاجة، واحتج مالك بالآية والخبر والقياس.
أما الآية فمن وجهين: الأول: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُورًا} وقوله: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء، والأصل في الثابت بقاؤه، فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملًا، وأيضًا قوله: {طَهُورًا} يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى والثاني: أنه أمر بالغسل مطلقًا في قوله: {فاغسلوا} [المائدة: 6] واستعمال كل المائعات غسل، لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو، قال الشاعر:
فياحسنها إذ يغسل الدمع كحلها.. فمن اغتسل بالماء المستعمل فقد أتى بالغسل، فوجب أن يكون مجزئًا له لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وأما السنة فما روي أنه عليه السلام توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده وعنه عليه السلام: أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه وعن ابن عباس أنه عليه السلام: اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء، فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي جسدًا طاهرًا فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدًا، وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف، ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع، ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه مع أن ذلك الماء صار مستعملًا في أعلى الوجه.
المسألة الثانية:
الدليل على أن الماء المستعمل طاهر قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُورًا} ومن السنة أنه عليه السلام: أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه، وقال: «خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه» وقال الشافعي: إنه عليه السلام توضأ ولا شك أنه أصابه ما تساقط منه، ولم ينقل أنه غير ثوبه ولا أنه غسله، ولا أحد من المسلمين فعل ذلك، فثبت أنهم أجمعوا على أنه ليس بنجس، ولأنه ماء طاهر لقي جسمًا طاهرًا فأشبه ما إذا لاقى حجارة.
المسألة الثالثة:
الماء المستعمل إما أن يكون مستعملًا في أعضاء الوضوء أو في غسل الثياب، أما المستعمل في أعضاء الوضوء فإما أن يكون مستعملًا فيما كان فرضًا وعبادة، أو فيما كان فرضًا ولا يكون عبادة، أو فيما كان عبادة ولا يكون فرضًا، أو فيما لا يكون فرضًا ولا عبادة.